الذاكرة السينمائية- الجزائر رائدة في توثيق تاريخ السينما العربية

المؤلف: هاني بشر08.14.2025
الذاكرة السينمائية- الجزائر رائدة في توثيق تاريخ السينما العربية

في قلب الجزائر، وسط صخب الشوارع وعبق التاريخ، تتجسد صورة مؤثرة لنساء جزائريات يرتدين الحايك التقليدي، يقفن شامخات وسط جموع من الرجال والأطفال، بينما تفصل بينهم أسلاك شائكة، ونقاط تفتيش عسكرية تزيد المشهد توتراً. فجأة، يعلو صوت قوي، هو صوت المحافظ العام، يعلن عن قرار صارم بإغلاق الأحياء العربية، مبرراً ذلك بأن "المجرمين"، كما وصفهم، وجدوا ملاذاً آمناً في هذه الأحياء بعد سلسلة من الهجمات التي استهدفت السلطة الفرنسية في الجزائر. تتصاعد حدة التوتر مع بدء عمليات التفتيش الدقيقة، حيث يخضع الجميع لفحص الهويات الشخصية. لحظة حرجة تسود عندما تتقدم امرأة نحو أحد الجنود، الذي يحاول تفتيشها، لكنها تثور في وجهه، رافضة هذا التعدي الصارخ.

في مشهد ينم عن كرامة وعزة نفس، يتراجع الجندي وزميله، ويسمحان لها بالمرور، في أجواء مشحونة بالترقب والقلق. هذا المشهد الدرامي هو جزء من فيلم "معركة الجزائر" الذي أبدعه المخرج الإيطالي القدير جيلو بونتيكورفو عام 1966. الفيلم يسرد ببراعة قصة الكفاح المرير الذي خاضه الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي الغاشم، ويعد علامة فارقة في تاريخ السينما الجزائرية العريقة. هذا التاريخ الثمين يتم توثيقه بعناية في "سينماتك" أو متحف السينما الجزائرية، الذي يقع في قلب الجزائر العاصمة. هذا المتحف يعتبر الأول من نوعه في العالم العربي، حيث تأسس عام 1965، والثاني على مستوى العالم بعد مكتبة السينما الفرنسية الشهيرة.

على الرغم من التجربة المصرية الرائدة والمتميزة في صناعة السينما على مستوى الوطن العربي، إلا أنها لم تشهد هذا النوع من التوثيق حتى يومنا هذا، لأسباب تبقى مجهولة للكثيرين. ففي الوقت الذي ازدهرت فيه عمليات التوثيق والتحقيق في الكتب والمخطوطات والآثار في شتى أنحاء البلاد، وإتاحتها للباحثين والجمهور على نطاق واسع، لم تحظ السينما والأفلام المصرية بعملية توثيق وأرشفة وفهرسة شاملة حتى الآن.

فيلم معركة الجزائر المصدر: IMDB
بوستر فيلم "معركة الجزائر" (آي إم دي بي)

لا تنبع أهمية هذا المتحف من تاريخه العريق فحسب، بل أيضاً من كونه شاهداً حياً على أحد فصول المعركة المستمرة في الجزائر، تلك المعركة التي لا تزال رحاها تدور بين فرنسا المستعمر القديم، والإرادة الجزائرية الصلبة في التحرر والاستقلال التام.

هذا الفصل يتعلق بالصورة والتاريخ السينمائي، حيث يعرض المتحف على سبيل المثال قصة فيلم "معركة الجزائر"، الذي كان أكثر من مجرد فيلم سينمائي عادي، بل كان بمثابة مشروع استقلال متكامل، انطلق بعد مرور 4 سنوات على استقلال الجزائر عام 1962، وبميزانية ضخمة. وقد ظل هذا الفيلم ممنوعاً من العرض في فرنسا لمدة 40 عاماً. بدأت فكرة إنشاء هذا المتحف كمبادرة من الباحث الفرنسي، هنري لانجلوا، الصديق الوفي للجزائر، الذي قدمها للمسؤولين في جبهة التحرير الوطني، إيماناً منه بأن الحفاظ على الذاكرة والتاريخ يساهم بشكل كبير في تعزيز الاستقلال وترسيخه.

في مقابل هذا الإدراك الجزائري المبكر لأهمية التوثيق السينمائي على الصعيدين العربي والعالمي، لا توجد محاولات عربية أخرى جادة لتوثيق التجارب السينمائية في الدول العربية. فالتجربة المصرية الرائدة في صناعة السينما عربياً -على سبيل المثال- لم تعرف هذا التوثيق حتى يومنا هذا لأسباب غير معروفة، ففي الوقت الذي انتشرت فيه عمليات التوثيق والتحقيق للكتب والمخطوطات والآثار في طول البلاد وعرضها وإتاحتها للباحثين والجمهور لم تشهد السينما والأفلام المصرية عملية توثيق وأرشفة وفهرسة حتى الآن.

ربما يعود هذا الأمر إلى أسباب سياسية، تتعلق بسحب أو الرقابة على بعض الأفلام، ومما يعزز هذه الفرضية محاولات فرض سردية معينة للتاريخ في الفترات الزمنية المختلفة التي مرت بها البلاد، خاصة الحقبة الناصرية في تعاملها مع الحقبة الملكية. فإذا كانت قد وصلت إلينا بعض الأفلام والمواد البصرية من هذه الحقبة الأخيرة، إلا أن مواد أخرى ظلت غائبة، ومنها على سبيل المثال غياب أي مادة مرئية أو مسموعة للملك الراحل فاروق، على الرغم من انتشار الإذاعة في عصره.

وتختلف عملية التوثيق عن فكرة حقوق البث والعرض، لأن الأخيرة تعني العرض العام، سواء عبر شاشات التلفزيون أو السينما، وتحكمها قوانين وقواعد مختلفة محلياً وعالمياً، في حين أن التوثيق يحافظ على حقوق أصحاب الحقوق المادية والأدبية للمادة الفيلمية، ولكنه يحتفظ بنسخة منها لأغراض الأرشفة والحفظ.

تهدف عملية التوثيق إلى تجميع التراث السينمائي الغني، ليتمكن المتخصصون والباحثون والطلاب وحتى الزوار من الاستفادة منه، ويشمل ذلك أيضاً الأفلام النادرة وغير المعروفة، أو الأفلام التي لا تتوفر منها إلا نسخة واحدة. وهو بمثابة تأريخ للحركة السينمائية وتطوراتها ومدارسها المختلفة، وهو بدوره نوع من التأريخ للبلاد وأحداثها والتحولات الاجتماعية والسياسية التي مرت بها.

التوثيق السينمائي عالمياً

إن فكرة إنشاء متحف شامل أو مكتبة مركزية للسينما ليست فكرة جديدة، فهي منتشرة في معظم دول العالم، مثل معهد الفيلم البريطاني، وهو منظمة خيرية تأسست عام 1933 ولا تزال قائمة حتى الآن، وتضم أكبر مكتبة في العالم للأفلام والأعمال التلفزيونية.

كما يقوم هذا المعهد بأنشطة مختلفة لدعم وتدريب الأجيال الجديدة من الشباب، بالإضافة إلى تنظيم مهرجانات وعروض سينمائية متميزة، ويتيح قسماً كبيراً من أعماله عبر الإنترنت، لتكون متاحة للجميع.

الأمر نفسه ينطبق على السينما الألمانية، حيث يشمخ مبنى "بيت الفيلم" المكون من أربعة طوابق في العاصمة برلين، ليفتح نافذة واسعة للسياح والمتخصصين على أكثر من 150 عاماً من تاريخ السينما الألمانية، بشقيها الغربي والشرقي. يضم هذا المكان معرضاً دائماً للسينما والتلفزيون الألماني، ويوثق تاريخ السينما هناك بشكل زمني متسلسل، كما يعرض أعمالاً من هوليوود لفنانين ألمان ممن هاجروا إلى الولايات المتحدة هرباً من جحيم الحكم النازي في ثلاثينيات القرن الماضي.

لقد عرفت بعض البلدان العربية فكرة المتحف السينمائي، مثل المتحف السينمائي في مدينة ورزازات المغربية، الذي يعد وجهة سياحية مهمة، ولكنه لا يركز على السينما المغربية تحديداً، أو على محاولة التوثيق السينمائي، وإنما هو أقرب إلى الحفاظ على مواقع التصوير المهمة التي استخدمتها السينما العالمية في هذا المكان الذي يعود تاريخه إلى نحو 100 عام مضت.

كما أن هناك محاولات ومبادرات عديدة في هذا الإطار لم تر أي منها النور، منها مثلاً مبادرة المنتج المصري هشام سليمان، بالإضافة إلى مشروع تخرج منذ عامين لـ 8 طالبات من كلية الإعلام في جامعة مصر الدولية، اللاتي سعين إلى تطبيقه على أرض الواقع، وقد حاز بالفعل على المركز الثالث في المسابقة التي أقامها مهرجان الجونة السينمائي.

يتضمن المشروع الأخير الكثير من الأفكار الجيدة، تتعلق بفكرة المتحف التفاعلي واستدعاء شخصيات سينمائية بارزة عبر تقنيات الهولوغرام المتطورة، وتمكين الزائرين من معايشة الأفلام بشكل حيوي وتفاعلي عبر تقنية الواقع الافتراضي. غير أن معظم هذه الأفكار الطموحة لم تجد طريقها إلى التطبيق على أرض الواقع بعد، على الرغم من مرور كل هذه السنوات على الحلم الذي يداعب خيال معظم العاملين في قطاع السينما في العالم العربي.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة